عن الزمكانية والنصوص الموازية..

كعادتنا نلتقي نتيجة لتآمر الكون لإسعادي..وكعادتي حاولت أن أعتقل الزمن في هذه اللحظة..جلسنا تحت برج إيفيل..وسألته:لو عدتَ يوما إلي ماكان،هل تجد الشئ الذي كان والشئ الذي سيكون؟
فقال:لو عدت يوما الي ماكان لن أجدا
غير الذي لم أجده عندما كنتُ..
وعقب قائلا وهو يفحص الكريستالات المتناثرة:هذا بديهي..ولكنه قد يتغير..وابتسم..لابد انه فكر ان كلمات كهذه قد تشكل وجداني..
اجابته نثرت علامات الاستفهام،وقل الهواء وضاق النفس..حتي بدأت أعتقد ان علامات الاستفهام تتنفس الاكسجين مثلنا..
خرجت من خواطري وقلت له:
دع الإستعارة،وامشِ معي.هل ترى أثرا للفراشة في الضوء؟
كان يحاول ان يكتب خطابا لبونابرت علي الآلة الكاتبة..فهي اختراع حديث جدير بتجربته..كان منهمكا في اصلاح حرف أخطأه..ولكنه قال:
اذا كان لابد من قمرٍ
فليكن كاملا كاملا
لا كقرنٍ من الموز..
-ألا نتصالحُ؟قلتُ..وأنا أتابع يده التي تتحرك علي علبة المياه الغازية امامي..لم يجبني..وظل ساهماً يفكر..فقلتُ:هل نتصالح كي نتقاسم هذا الغياب..فنحن هنا وحدنا في القصيدة؟
قال وهو يحاول قراءة مخطوطة قديمة،كُتبت بالسومرية:تريَّث..
ستحتاج وقتاً لتعرف نفسك
فاجلس علي برزخ بين بين
فلاكيف كيف،ولا أين أين..
عند الغروب يحس الغريب بحاجته
لعناق الغريب،وعند الغروب
يحّسٍ الغريبان أن هنالك،بينهما،
ثالثاً يتدخل في ما يقولان أو لا يقولان..
راقبت الدخان الذي ينتشر،وقلتُ:كيف نعيش وكل شئ مؤقت،كل شئ علي البسيطة زائل؟كيف تتقن صنعة شئ أنت أول من سيتخلي عنه؟
قال لي:نزور فتات الحياة،الحياة
كما هي،ولنتدرب علي حُب أشياء
كانت لنا،وعلي حب أشياء ليست
لنا..ولنا إن نظرنا إليها معاً من
علٍ كسقوط الثلوج علي جبلٍ
صمتُ قليلاً لألوك الكلام وأمنطقه..وإجلالا للقضية الضخمة التي كان يقلب أوراقها الأخيرة..بحثا عن لحظة النطق بالحكم..
بعد قليل..نادى خادماً انجليزيا كان سائراً..وأمره أن يحضر لنا شاي الخامسة..وسألني بهدوء:
هل نطأ الآن أرض الحكاية؟قد
لاتكون كما نتخيّل"لا هي سمنٌ
ولا عسلٌ"والسماء رمادية اللون.
والفجر مازال أزرق ملتبساً
ابتسم عندما رآني لا أقدر علي الرد..لم يدُر بخلدي يوما أن الحكاية لها إرادتها الخاصة..ربما نحن نصنع الحكاية وهي تختص بالنهاية..ولكن..لنلعب هذه اللعبة قليلاً:
قلت له:انت اذن لا تحب الاسئلة الصريحة..اجبني اذن..لماذا نحب،فنمشي علي طرقٍ خالية؟
فقال:لنقهر موتاً كثيراً بموت أقل
وننجو من الهاوية
قلتُ:لماذا حلمتُ بأني رأيت سنونوة في يدي؟
قال:لأنك في حاجة لأحدْ
قلتُ:لماذا تبالغُ في السخرية؟؟
قال:لكي تأكل الأغنية قليلاً من الخبز مابين حين وحين..
قلتُ:هكذا ابتدأت أغاني الحب.أنت اذن عرفت الحب يوماً!0
قال:كلما اكتمل الحضور ودُجِّن المجهول..
غبتُ..
أهلكني احساس النسيان..بمعني خوفي من فقد ذاكرتي..بمعني أن الاحداث الجسام تحتل حيزا ضخما من الباحة الخلفية للعقل..بمعني انني يجب الاّ انسي انه قال..قال ماذا؟؟..نسيت!..ياربي
رفعتُ عيني إليه..كان هناك..يحاول ترميم انف أبي الهول..
فسألته:هل قلتَ لى شيئا يغيّر لي سبيلي؟
فقال وهو يتابع عمله:لم أقلْ..كانت حياتي خارجي.
رأيته يتابع حركة عيني..ثم ينظر الي سطح الماء بعد السحاب..للأمطار في هذا الوقت من العام وضعٌ عكسيّ..فهي من اليمين الي اليسار..تماماً كحركة عقارب الساعة..كنتُ أراقبه وهو يزيل التراب بمنفضة صغيرة عن نقش تبتي يمثل كعادتهم أفعي وتنيناً..ويسألني:
أتنتظرين أحداً؟
فأجبته بسرعة:لا أحدٌ هنالك في انتظاري
جئتُ قبل،وجئتُ بعد،فلم أجد أحداً
يُصَدِّق ما أري..
وأكملتُ:أشعر بالعدم..وأشعر بالامتلاء..يسبق احساس الاجادة والريادة ..احساسٌ بالبكاء..وانه:ليس في وُسْعٍ القصيدة أن تُغيّر ماضياً
يمضي ولا يمضي..
ولا أن توقف الزلزال..وأكملتُ..وكأنني قد مِتُّ قبل الآن.
نظر لي بعمق كأنما ليتأكد من جِدتي..ثم مد يده لينزلني من الأرجوحة التي كنت أركبها..ثم قال بعد ان قطع عشبة ووضعها في فمه:ليس لنا الأبد..الأمر يحتاج الي صبرٍ و جَلَدْ..قُل معي:سأصير يوما ما أريدُ
سأصير يوماً فكرة،لا سيف يحملها
إلي الأرض اليباب ولا كتاب..
كأنها مطرٌ علي جبلِ تصدًّعَ من
تَفَتُّحِ عُشبة
...قل:مالآن،مالغدُ؟
مالزمانُ ومالمكانُ؟
ومالقديم ُومالجديدُ؟
سنكون يوماً مانريد...
كعادته كان يجلس فس المنتصف..ليس بعيدا عن ما يحبه وليس قريبا من ما يكرهه..وكان في جعبتي الكثير من الاسئلة..قلتُ له بحسرة:الزمان يسير..واشرتُ الي عقارب الساعة ولم أذكر متي تعلم قراءتها بهذا الوضوح..ابتسم عندما رآني لا أرفع عيني عنها وقال وهو يربت علي ساعته:
لا الرحلة ابتدأتْ،ولا الدرب انتهي
لم يبْلغ الحكماء غربَتَهمْ..
كما لم يبلغ الغرباء حكمتهم..
ولم نعرف من الأزهار غيرَ شقائق النعمان،
كل كلامه يحمل معني التمهل..ولكنه يستعجل..انه يستعجل النهاية..لابد أن يكون الوداع مبتوراً مثل كل مرة التقينا فيها..وربما هي طبيعة بشرية، وكأنه أحد العاملين في المناجم..الذي ينهي اليوم بنومٍ قاطع علي الأريكة أيا كان وضع النوم واليوم..
سألته وانا أريد أن أمسك به كي لا يرحل..
مرّ الوقت..ولم أعرف من أنت؟
قال لي:أنا ولدُ الكلمات البسيطة
وشهيد الخريطة..
قلتُ ألست الغريب؟
قال بتهكم:الذي تعب من درب الحليب الي الحبيب؟
أم انا الغريب بكل ماأوتيت من لُغتي؟
كان يختفي من قدرة العين علي الإبصار..لكأن أحدا يسحبه من سُلطة القرنيّة..فقلت له بسرعة:لا تشتتني..من أنت؟ماسمك؟
كيف أناديك حين تمرُّ من أمامي؟
ولمّا لم يجبني..قلتُ:ربما نلتقي؟
قال:ربما..فإلي اللقاء.
قلتُ:ربما..فإلي اللقاء!0
____________________
الكلام الملون من مجموعة قصائد مختلفة لدواوين مختلفة لمحمود درويش..الغالبية من "كزهر اللوز أو أبعد" و"جدارية"0

Comments