و يَنْساني..



رأيْتَنِي في العِلْم،أسافرُ على شيءٍ ما ؛ لأصِلَ إلى مكانٍ ما،مكانٌ مُبْهج هُوَ ..و في رُوحه ما يدلُّ على أنه سيستمر هكذا أربعين عاماً و شهرين و يومين،أصلُ للمكانِ الذي لا أعرفه - و إن كنت –كالعادة-رأيتُهُ في مكانٍ ما آخر- و أترجََّلُ عن الشيء ما لأدخل من بابٍ ما،أدخلُ فأغرقُ في البَيَاضْ،أفكِّرُ كيف كان اللون الأسود..أسوداً حقاً؟ و أستغرب..ربما لم يكن هناك ما يُسَّمى هكذا سابقاً.


المكان يَخْتفي و البياضُ يَسْطع، أنتقل إلي مرتبةٍ أعلى و أوضح..الحروفُ أمامي..أراها أمامي في كامل بَهائِها و عِليائها،تطيرُ فتكوِّن كلمات،و تطيرُ الكلمات و تتعانق لتكوِّن جُملاً،بعضها يكُون الاسم،و البعضُ الآخرُ لا مكان له في الوَصْفِ فيفعل،أرى الفِعْل أمامي ،و أراهم جميعاً مُتَّحِدين فيه كأنَّهم واحدٌ لا يتجزّأ و كُلٌّ لا يَنْفَصِم، ،الحروف تبدو جوعى و سوداء اللون، و لا شيء هنا يسُدُّ الرمق،ماذا تأكلُ الحروف الآن غير قلبي؟ لا شيء ..آخذ من قلبي لأطعمهم ..حتى أعْطِيهم إيّاه كاملاً..لا أريده و لا أريد أكثر من بِضْعة حروفٍ تكوِّنُ كلمات،تُكوِّن جُملاً..ليكتمل المعنى ،و أراه أمامي واحداً أحدا..فأعرفُ الطريق التي سأضيعُ فيها وحدي.

لم يكن في العُمر الكثير من "العِلْم"،كان هناك -بطبيعةِ الحال- كثيرٌ من الحلم،فلتَكُّفْ الحروف عن مُراوغتي إذاً،أهديتها قلبي لتأكلُه ،و روحي لتشرب منها،فلتكفْ حروفه عن طردي من جنتها كلما عَنَّ لها،كأني آتيتُ شيئاً نَكِرا.
الحروفُ سوداءُ اللونِ و اللُّغةُ تتلوّن بمشيئتها،و الخط محايدٌ تماماً لا يَعْترف بالأضداد و لا بالمحاسن،و الدَّمُ –دمي- أحمرُ اللون،و القلب-قلبي- اختلطتْ فيه الألوان حتى صار لونه مؤجَّلُ التسميةِ ليوم القيامة،لم يكن آدم يعرف ،فلن نعرف الآن.

وصلتُ للحافّةِ المُقدسة،فأخلع نَعليّ،أمشي علي لُغته حافيةَ القدمين،أستمتعُ بملمس النِقاط و الحروف،تعْثُرُ أصابع قدميّ في نقاط الثاء،و تُدميني سِنان السين،و تجرحني ملوحةُ البحر في حرف الحاء،و يَبْتلعني نُونه و يَلْفِظُني،لأضيعَ سنين في تِيهْ الهاء،أخرجُ منه لأنزَلِقْ على الراء فأراني في مواجهة العين،أغضُّ الطَرْفَ و أهرب،فأصطدم بصرامةِ القاف و سهم الألف،أموت خوفاً فأرتدُّ بظهري و أجري فيلحق بي الضاد و الميم و التاء المربوطة ،يحتضنوني و يهدِّؤوا من رَوْعي،فأهدأ..أهدأ و أستكين،اعتدل في جلستي على الزاى..و أرى الدال تُضَمِّد قدمي التي جُرحتْ بحنو،و أرى الياء قادمةٌ من بعيد تحملُ وعداً بدواءٍ للقلب المُرْتجف،الباء و اللام و الغين و المد يتساءلون؟ ألم تكبري بعد يا صغيرتنا؟ لماذا يهزمك الخاء و الواو و الفاء الآن إذن؟!


لا أملك الإجابة،و قدميّ لازالت تُؤلمني من المشي على حروفهِ الحادةِ المُوجعة،كما الهربُ من حروفهِ القاسيةِ المُرْعِبة،يُراودني النون عن نفسي بعد أن لَفَظني و كنت أريد أن أظلَّ نقطةٌ فيه للأبد،يقنعني أنه لم يكن يقصد،و أن النون يختلفُ باختلافِ القمر..و أني قمرٌ يختلف،فلتكوني نقطتي و ملكي و حدودي،و مدٌ أهربُ إليه كلما اشتّد الجَزْر،و عينٌ أشرب منها كلما زاد المَلْح،أتوه مع النون،يُغْويني عن بقيةِ الحروف،و يُنْسيني كامل لُغته و ما فعلته بي،شيءٌ كأنه الخَدَرُ يسْري بأطرافي ،أشعرُ بالنون بكامل ثُقْله علي جسدي،ثم يَلُفُّني و هو يُقبِّل قدميّ الدامِيتان ،حتى أفقدُ الوعي في أحضانِه.


أفيقُ..بيدي ديوانه المُغْوِي،ابتسم لرُوحِي..كم يكتُبُ الشِّعْر جَميلاً..و يَنْساني..

photo by:Sayed Dawoud

Comments

Mandow Adam said…
جميلة إلي أبعد حد
We2am said…
أشكرك بشدة و بعنف و برقة و على استحياء
:)