"إيه العَمَل يا أحْمَد؟" وموسيقى لا تنتهي أبداً
*نُشر المقال للمرّة الأولى في موقع كسرة - 2014
في ذلك العام من أواخر الثمانينات، كانت الاستعدادات لوصولي تجري على قدمٍ وساق، تذاكر طيران إلى القاهرة، إجراءات وصول وإقامة مُريحة في بيت الجدّة القديم بحي السيّدة زينب، مُتابعة مع طبيب مُتمرّس، وفي نهاية العام الذي أطلقتُ فيه صرخَتِي الأولى في هذه الدنيا، كانت الإعدادات ومحاولات لمْ الشّمل والتأسيس انتهت أيضاً لفرقة "الطنبُورة" في بورسعيد ، وظهرت الفرقة ككيان جديد يضجُّ بالحياة، مكوّن من "صُحبجيّة" مُخضرمين، في أوائل العام 1989.
لذلك لا يبدو لي غريباً أن ترتبط رُوحي بهم، فلهُم قدرة عجِيبة على التعبير عن حالات المزاج المختلفة، فهُمْ "بتوع مزاج" فعلاً، رائقين، يعيشون تقلّبات الزمن كاملة، بدءاً من نَزْعَة صوفيّة إلى مَعْشَقة مروراً بأغاني المقاوَمة، بكل ما يحملُه هذا المزيج من حُب وسعادة وكُرْه، وحُزن وشَجَن، وحماسة وعِشق وتخلّي وتجلّي، في مشهدٍ مهيبٍ لمدة ساعة أو ساعتين "حَسَبْ المزَاج" على المسرح ووسط الناس، لا تقدِر في حفلاتهم على مُسمّى "الجمهور"، لأن الناس "ناسْهُم" مريديهم وسمّيعتهم، أغلبهم ينتظرون الحفلات الحيّة ليستمتعوا بالحالة المبهرة التي يخلقها الصُحبجيّة من غناءِ ورقصِ ووجْدٍ وفنَاء.
ولأن البدايات هيَ أصلُ الحكاية، فمُنتصف الألفينات كان التعارف الفعليّ بيني وبين "الطنبُورة"، أنا فتاة تبدأ عامها الجامعي الأوّل الحافِل بعد سنوات المَدرَسَة والتكوين، وهُم فرقة آخِذة في الإنتشار والشُهرة في العاصمة بعد تاريخٍ عامرِ في بورسعيد والعالم، حضرتُ في ذلك العام حفلة ٌ لهم مصادفةَ على أحد المسارِح المُستقلّة في القاهرة، وبدأت ْكما بدأتْ قصّة الحُب بيننا بصوتٍ رائق لصُحبَجي يقول:" إيه العَمَل يا أحْمَد؟"
https://soundcloud.com/ahmedabdulrahman-2/ppxuwrr2it80
صحيح.. إيه العمل يا أحمد؟ وقد بهتَتْ الألوان في بورسعيد، والباقي من السمسمّية
لا يتعدّى بعض الأفراح الشعبية أو قصور ثقافة الدولة، كما حكى كثيراً مؤسس الفرقة
" زكريا إبراهيم" - أو "الريّس زكريا" كما يُحّب ونُحِّب أن نُناديه
-عن هذه الفترة في منتصف الثمانينات، وحبُّه للسمسميّة طاغٍ لدرجَة دفعتُه إلى
المقاومة ضد كُل عوامل الطرد والاندثار، فسعى إلى تجميع العازفين والمؤدِّين، كان
يبحث عنهم داخِل مهنهم كحرفيين وصيّادين، وبحَثْ عن شيوخ الحفّيظة، وحفَرْ في تراب
البلد ليصل إلى تراثها الغنائِي الذي يُغنّي كل ما يعبُرُ بالحياةِ والموت، إلى أن
طلّت "الطنبُورة" على بورسعيد كل يوم أربعاء في ساحَة "النجمة"
بشاطئ بور فؤاد، بعد تجميع أكثر من عشرين ساعة من تراث الغناء الشفهي الذي لم
يدوّن أو تكُن له نوتة موسيقية، المُتفجِّر برُوح مُدُن القناة، وكُل الزحام
التاريخي والجغرافي الذي يسيل من جُدْران البيوت وحِجَارة الشوارع فيها، منذ حَفْر
القناة والسُخرة، ومروراً بالتهجير إلى محافظات مصر المختلفة، والعوْدة، وحتى
تأميم القناة، والعدوان الثلاثي وحرب الاستنزاف وأكتوبر 1973، وانطلقت
"الطنبورة" من حفل مساء الأربعاء، إلى القاهرة، والعالم.
بلَدِي يا بلَدْ الفدائيِين:
https://soundcloud.com/ahmedabdulrahman-3/zjp3mtagyso8
و"الطنبُورة" إن كانوا يغنُّون للوطنيّة، ويمدحُون النبي والرُوضَة، فهمّ يغنون للعشق والحُب والدلع أيضاً، ولا يخجلون من التصريح بالإعجاب وحُب البنات الحِلوة بجرأة ومعاني مركبّة، لدرجة إن أحدهم رأى القمر على صَدْر جميل وصرّح للجَميل بذلك:
بلَدِي يا بلَدْ الفدائيِين:
https://soundcloud.com/ahmedabdulrahman-3/zjp3mtagyso8
و"الطنبُورة" إن كانوا يغنُّون للوطنيّة، ويمدحُون النبي والرُوضَة، فهمّ يغنون للعشق والحُب والدلع أيضاً، ولا يخجلون من التصريح بالإعجاب وحُب البنات الحِلوة بجرأة ومعاني مركبّة، لدرجة إن أحدهم رأى القمر على صَدْر جميل وصرّح للجَميل بذلك:
شُفت القَمر على صدْر جميل، ياكُل حلاوة
ثم يشْرَب خمير، ده كُل شئ له نظَر يا حمام
https://soundcloud.com/ahmedabdulrahman/1imxjdtcpgz7
وهيَ جميلة، وعلى صَدْرها قمر، فيغازلها كُل يوم، ولا تكفي مُغازلة اليوم الذي قبْله، فيتحوّل الحُب إلى عادة "تزداد" في متوالية عددية، أكاد لا أجد فيها للقُبل فقط وقتاً بعد أسيوعين من المداومَة مثلاً:
أنا ليّا عَ الحُبْ عادَة،كل يُوم بوسْتين زيادة، الأوّله من صَحْن خَدُّه ،التانية من دَه على دَه
https://soundcloud.com/ahmedabdulrahman/myppurvnaqua
https://soundcloud.com/ahmedabdulrahman/1imxjdtcpgz7
وهيَ جميلة، وعلى صَدْرها قمر، فيغازلها كُل يوم، ولا تكفي مُغازلة اليوم الذي قبْله، فيتحوّل الحُب إلى عادة "تزداد" في متوالية عددية، أكاد لا أجد فيها للقُبل فقط وقتاً بعد أسيوعين من المداومَة مثلاً:
أنا ليّا عَ الحُبْ عادَة،كل يُوم بوسْتين زيادة، الأوّله من صَحْن خَدُّه ،التانية من دَه على دَه
https://soundcloud.com/ahmedabdulrahman/myppurvnaqua
بما إن كُل شيء له نظَر، فلهذا الشغف بالجمَال طبع ٌحادٌ جداً، فعلى ضخامة تراث الغزل في أغاني الطنبُورة والسمسميّة عموماً، فإذا كانت السّت وِحْشة، فهي وحشَة وانتهى:
حُوش يا علي يا بتاع الزّيت*:
*الأداء لفرقة أبناء بورسعيد، لعدم
وجود تسجيل على الإنترنت لفرقة الطنبُورة.
عودٌ على ذي بدء، ففي الألفين وعشرة، تخرّجتُ من الجامعة واتضّح ما سأفعله بحياتي العمليّة، وافتتحت الفرقة مركز " المصطبة" للفنون التراثية في حارة البلاقسة بقرب ميدان عابدين بوسط القاهرة، جار السيّدة زينب، و أصبحت تقيم به حفلة في ليلة خميس واحدة من كُل شهر، وتتيح الفرصة لفرق أخرى يرعاها المركز، كُل خميس لتقديم أغانيها وعروضها وتعريف الناس بها، كأنه لا يكفيهم البحث عن الجمال في تراثهم الخاص، لينطلقوا في رعاية فِرَق أخرى من كُل أنحاء مصر:
جَمِيل..وينُه؟
https://soundcloud.com/3assiii/el-tanbura-gamel-weno
ووجد الريّس زكريا "الجميل"، ورَعَى وأحضر إلى المركز على مدار السنوات التالية لثورة 2011: فرقة "مزامير النيل" من الصعيد، وفرقة "نوبة نور" من النوبة، وفرقة "دراويش أبو الغيط" من القليوبية، وفرقة "البرامكة" من المطرية دقهلية، وفرقة "الِحنّة" من السويس، وفرقة "الجركن "البدوية من شمال سيناء، وفرقة "الرانجو" التي تمزج بين موسيقى الزار المصري والسوداني، وآخرهم فرقة "الكفّافة" من أسوان في عام 2014.
هنا بدأت قصة الحُب تنتَظِم، وأخذت أذهب كُل خميس تقريباً إلى المركز لأغلب الفِرَق، أو للاستمتاع بحفلات رائقة للفرقة العظيمة، وبعد الحفلات التي حضرتها والأغاني المُسجّلة التي سمعتها، كانت أغنيتي المُفضلّة قد استقرّت، وكالعادَة، كانت هي الأغنية الوحيدة التي لا تُغنّى في الحفلات:
والنبي يا غزال حُوش طرف الشال يُطرف عيني، ده حرير في حرير مِن النسمة يطير عيني يا عيني
https://soundcloud.com/ahmad-mohamed-ragab/ahxzttb3vunu
بلغ غرامي بالأغنيّة لحناً وكلاماً مبْلغاً، رنّة
تليفوني المحمول مهما تغيّر، ومهما حدث للدُنيا وللناس على رأي "يوسف السباعي"،
أطلبها بصوتٍ عالٍ في الحفلات، أبدأ دوماً سماعي لتسجيلات الفرقة بها، وأرشّحها
لمن لا يعرفون الفرقة، أسمع من أصدقاء أن الفرقة كانت تُغنّيها في مطلع الألفينات
في القاهرة، وتتناهى إليّ شائعات أنها تُغنّى في حفلات مساء الأربعاء في بور فؤاد
فقط، وفي ديسمبر 2013 حضرت الاحتفال الكبير في دار الأوبرا المصرية بمناسبة مرور
خمسة وعشرون عاماً على إنشاء فرقة الطنبُورة البورسعيدية، ولم تُغنّى أيضاً!
وبرحمةٍ من الله للشّغف، أرسل إليّ أحد الأصدقاء فيديو لحفلة في نوفمبر 2014 في بور فؤاد، تُغنّي الفرقة فيها والنّبي يا غزال!
وبرحمةٍ من الله للشّغف، أرسل إليّ أحد الأصدقاء فيديو لحفلة في نوفمبر 2014 في بور فؤاد، تُغنّي الفرقة فيها والنّبي يا غزال!
كانت لحظَة من الانسجام والانبساط. لكّن شيئاً ناقصاً كان يُصيب اكتمال حفلاتهم
دائماً، كيف يرقصون عليها؟ بأي روح تُغنّى؟ ما الذي يرتجلونَه وسْط الناس بوحيٍ من
اللحظة؟ حتّى 24 ابريل 2014، في حفلة قليلة العدد في مركز "المصطبَة"، غنّوا
"والنّبي يا غزال" في القاهرة أخيراً! طلبناها بصوت عالٍ فغنّوها، بدأها
"مُحسن العشري" عازف الفرقَة الأوّل والحائِز على جوائز عالميّة، بموّال
ليس موجوداً في أيّ تسجيل، ثم غنّاها كاملةً!
لحظةٌ كاملةٌ للمعنى، أذكُر احساسِي يومها كاملاً لا
ينقصُه ثانِيَة ولا سنتيمتر، جبَرْت النّقص في حُبٍ دائمٍ وقديم، وأعرف أن كُل
الحفلات التي سأحضرها لهم بعدها ستكون بروحٍ جديدة ومُختلفة، صح القول إذن،
"يوماً تعاتبنا" كان أحلى الأيّام:
https://soundcloud.com/ahmad-mohamed-ragab/oxksht4jbwje
https://soundcloud.com/ahmad-mohamed-ragab/oxksht4jbwje
في إنتظار حفلتهُم القادِمة، أعودُ من حين لآخَر لصوت الصُحبجِي، في مُنتصف الألفينات، وأعرف الآن أن الجمَال الذي لا ينتهي أبداً، يُعرَف من لحْظَة البداية.
Comments