شارع المُبتديان والرِفقَة





سألني ونحنُ نعبُر ميدان السيّدة زينب: " لمِ سُمّي هذا الشارع  ب"المُبتديان"؟ فكّرت قليلاً، وحِرتُ في الإجابة، فرغم شغفي العظيم بالمنطقة، إلّا أن الشارع كان دائماً المُبتديان، وجوده سابقٌ على كُل شيء حتّى أنني لم أفكّر في اسمه القديم أو الجديد، قُلت: ربّما له أصل مثل "رامتان" طَه حسين، فقال في إشارة خفيّة لولعي بالمكان: "تخيّلت أن هناك دائماً سبباً لاسماء الشوارع هنا، وأنك دائماً تعرفينه."

ابتسمتُ اليوم للذِكرى، لضمّة اليد التي تحرّك الخوف على المستقبل، وانتظاره في نفس الوقت، وللأحاديث الطويلة حول كُل شيء، وللوقت الذي لا يكفي أبداً، وفكّرت.. أريد أن أكتب عن الرِفقة.

كوب الشيكولاتة الساخِن، ومُحاربة طواحين الهواء، والعِناق الليلي بعد مشقّة النهار، والتلصص على المكتبة الكبيرة في محاولة للتمهيد لسرقتها - يتم التدارك دائماً بشراء كتاب أو اثنين كهديّة - واللِين، والرِفق في الأمر كلُّه، والحُب الذي يسيل من الأرائك والشراشِف وينثني أمام العواصِف ويشتّد في وجه الرياح، والغرام الذي تركته أم كلثوم على جَمر النار، منتظراً صباحاً جديداً ليُصبِح رماد.. ويتأخّر هذا الصباح، وتمتُّد يدي باحثةً عن ملمَس الجِلد الذي يتركُه في مطفأة السجائر، وعلى كوب المياه، وعلى حافّة الصحن، وعلى جِلدي.

الرِفقة اطمئنان دائم أن هناك من سيقُر السِلم في أوقات الحرب، فقط لأنك تعبت من حَمل السلاح، وأن هناك من سيسحب النهار من تحت عباءة الليل عِنوة، فقط لأن عينيك لم تعُد ترى جيداً في الظلام.

أمشي في شارع "المُبتديان"، وانظر للافتة التي تحمِل اسمه الجديد: "محمد عز العرب"؟

في يناير 1868 تم نقل مدرسة المبتديان إلى حي الناصرية، في مكان قصر عثمان بك البرديسي، والمبتديان كلمة تركيّة تعني الابتدائيّة، وفي عام 1900 أحَب الشيخ علي يوسف، صفية عبد الخالق السادات، كان اليوم الموعود، يوم استطلاع هلال رمضان، وسألها والدها، أن تتصل بجريدة "المؤيّد" لتعرف الرؤية، فاتصلت، ورد عليها الشيخ علي رئيس التحرير، الذي كان يعمل دائماً لساعات متأخرة من الليل، وأغرمت بصوته الشجيّ وحديثه، ووقع صوتها من قلبه موقعاً حسناً، وتدبرّا اللقاء، وبعدها بقليل بدأت الخطابات مع الرُسل، صديقتان إنجليزيتان لصفيّة، تأتمنهما على السِر، فالشيخ علي يوسف من الصعيد، ومن عائلة لا تُعتبر نسباً، ويعمل "جورنالجي" ولو كان رئيساً للتحرير، وعلاقاته السياسية بالقصر وصداقته بالخديوي عباس حلمي الثاني، لم يغفرا نضاله ضِد الإنجليز، وصفية من عائلة ثرية تملك الأطيان والأراضي، وتحتقر مِهنة الكتابة، ولكن الكتابة نَفْسها هي ما جمَعت بينهما،  يقول لها في إحدى رسائله:

"حبيبتي وصفوة فؤادي صفيّتي، وصلني كتابك الجميل اللطيف وأنا أشكرك على كل كلمة فيه وأشكر عواطفك الشريفة على ما ملأت به الكتاب رقة وإخلاصا ومنة ولطفا وأن الكلام الجميل من محبوب جميل ليفعل في القلب من تصاريف الحب ما لا يفعله الدلال أو شرود الغزال بل أضعاف ما يفعله الجمال نفسه وأن الصورة التي تفضلت بها علىّ لهي طبق الأصل من فوتوغرافية القلب حتى كاد القلب يطبق عليها لما ضممته إياها، وإن صاحبتك وأختها قد لاحظتا علىّ الشغف الزائد الذي تناولته بها وقد عذبتني كثيرا حتى ناولتني إياها، فكانت عاقبة هذا العذاب عذوبة، ما أبردها على قلبي الهيمان. وقد وضعتها في مكتبتي الخصوصية لأنظرها ما بين كل لحظة وأخرى. 
وكانت في يدي قبل أن أتناول الكتاب أقلب فيها بصري وقلبي وأقلب عليها فؤادي وأحشائي الملتهبة تعللا بطيف المحبوب في اليقظة بدل الطيف في المنام، وقد لا يكفيني ما ترسلينه لي من القبل على صفحة خد الطرس شيئا لو لم تكن الصورة بين يدي أقبلها ساعة بعد ساعة... ولولا ذلك ما استطعت أن أنسى تلك الهفوة التي فرطت من قلمك «لا من قلبك» بلا حساب. فكيف والحال هذه تزهق نفسي من كمية قد لا تسمن ولا تغني من جوع ومن ظمأ.

قولي إنني شره لا يشبعني ولا يرويني شيء... قولي كما تشائين فإنه لا يغنيني عنك شيء من لذات الخيال في هذا الوجود... وإن مكنتني منك بالذات تكوني قد ضاعفت إحسان جمالك على محبك الولهان. أقدم لك أحسن تهاني القلب ولأختي أشرف تحايا الاحترام من أجل رمضان وأسأل الله ألا ينقضي حتى يكون شملنا مجتمعا بعقد القران... آمين"



وكان يسافر، ويكتب لها أيضاً من الخارج، وينتظر خطاباتها في البريد، وفي مرة لم يتحمّل القلق فكتب لها:
 "عزيزتي وصورة روحي صفية. من يوم أن وعدتك إلى الآن لم أحظ منك بمكتوب وقد كتبت لك في الإسكندرية ثم في مرسيليا وهذا الثالث بعد وصولي جنيف هذا البلد الجميل الذي لم يكن يلذ لي شيء في الدنيا غير أن تكوني معي فأتمتع به وتتمتعين بما أبدع الله من محاسن الطبيعة في هذه الجنة الفيحاء والآن أنتظر البريد يأتيني بل أنتظر بين كل لحظة وأخرى منك خطابا أقبل طرسه بفمي وسطوره بعيني ومعناه بقلبي ويدي فوق كبدي الحراء مخافة أن تسيل.
عزيزتي... لا تمضي لحظة ولا طرفة عين إلا وأذكرك فيتجلى في مرآة خاطري بل أمام بصيرتي وبصري خيالك مجسما فأراك بكل ما أودع الله فيك من محاسن وآيات جمال باهرات... كأني أراك حقا وأتلذذ بمد يدك. بل كأني أسمعك تقولين لي، كما كنت تقولين ارحمني ارحمني... فأذوب لوعة وأسى وأقول من يرحمني وأنا عاشق الجمال والحب والشرف والمجد الصميم.
أسأل الله أن يقرب لي أيام لقائك وأن يمتعني بك قرينة محبوبة محبة سعيدة بي وسعيدا بك... وأقبل الآن وجنتيك وثغرك وأرشف ريقك الخمري السكري وأسلم على والدتك ملايين الملايين."


صفية السادات وعلي يوسف

وفي عام 1904، تزوّجا دون علم أبيها الذي ماطَل كُل هذه السنوات، وكاد قلبه أن يتوقّف، وشن عليهما حرباً شعواء، "الجورنالجي" الذي خطف سليلة الحسب والنسب، ووكّل المحامي"محمد عز العرب" ليرفع عليه قضيّة لإبطال الزواج والتفريق بينهما، وحاول إثبات أن نسب عائلة السادات يعود إلى "الحسين" ليضمن التفريق على أساس الوضع الإجتماعي، لقد كانت عائلة الشيخ يوسف فقيرة، وكان متزوجاً أيامها، ولم يحصُل على العَالميّة التي تضمن بعض التحسُّن في أوساط العلماء والأزهريين.

بعد أن حكمت المحكمة بالتفريق، ورفضت صفيّة العودة إلى بيت أبيها والتخلّي عن حبيبها، وتحت ضغط من الخديوي ورجال الشرع والقانون، وافق أبوها على زواجها من علي يوسف بعقد جديد، وانتصر الحُب في معركة جديدة، كانت من أهم أسلحتها الكتابة.

وبقِي لنا في هذا الزمن، أن من سمّى شارع المبتديان "محمد عز العرب" المحامي، سمّى الشارع الذي يليه إلى اليسار، شارع الشيخ" علي يوسف"، ليظل الحُب دائماً على المَحَك، في انتظار معركة خفيّة، أو لتذكيرنا ونحن نسير في شوارع السيّدة زينب، أن "صفيّة السادات" لم يحِن دورها بعد.

الرِفقة، هي الحكاية التي ننسِجُها سوياً، وإن لم نقصِد ذلك.

Comments