الحكاية و ما فيه


كما يحادثُ الشاعر صاحبيه المتخيًّليْن ، ليهادن القافية و ليخفي ولعه بالحديث إلي حبيباته في القصائد أكثر من الحقيقة ..أحادث أوراقي.. لأخفي ولعاً بالحديث إلي نفسي
في الحقيقة .. أفكّر و أفكّر.. تدور القصص القصيرة في رأسي .. أقصّها لعلّي أتذكر شيئاً منسياً
يعني مثلاً
 الولد الذي يهرع كل يوم علي سلالم البيت في تمام العاشرة صباحاً ، مغلقاً أزرار قميصه في السلمة الثانية ،و ضاماً الجاكيت في الثالثة.متذكراً الهاتف و المحفظة في الرابعة، و مؤمناً علي مفاتيحه في الخامسة، يقفز السلمة السادسة و يفكّر إن كان أغلق الباب أم لا في السابعة و الثامنة..يهرع إلي عمله الذي تأخر عنه كثيراً .. في الطريق يهاتفه رقم لا يعرفه..يرد ليجدها فتاة ..تصرخ: "علي! أخيراً رديت علي التليفون! " فيخبرها  أنه ليس علياً ..تصرخ: "علي! أنا تعبت! هاجيلك ! أنا هاكون النهارده في محطة مصر علي رصيف خمسة الساعة تمانية عايز تقابلني براحتك ..مش عايز أنا هاعرف أتصرف!" و تغلق الخط بغضب من رد فعله .. يتصل بها مرات عديدة لإحساسه بالذنب علي علي الذي لا يرد علي هاتفه ..و تنتظره فتاة رقيقة ذات صوت ونّاس كهذه البنت..يتصل و لا ترد..ثم يجد الهاتف مغلقاً ..يمر يوم العمل عادياً و يأخذ مكافآة صغيرة..فيقرر أن يشتري لأمه عباءة و لأخته اسطوانة قديمة لوردة..يعرف ولعها بها منذ كانت طفلة،في طريق عودته من المنزل يركب ميكروباصاً .. يخاف ان يركب تاكسي هو..مؤمن أن اليوم الوحيد الذي سيركبه فيه سينسى محفظته بكل ما فيها علي المقعد الخلفي! يسرح في اللاشيء ممنياً نفسه بوجبة غداء لذيذة في بيت الأهل .. ليفيق علي السائق ينهره مطالباً منه النزول فوراً : "اصحى يا عم هي ناقصاك!" ينزل متبرماً ..ينظر حوله ليجد نفسه في الفراغ! فراغ فسيح يا عزيزي..لا يوجد بشر ! ولا وسائل مواصلات ! ولا بهائم و لا حيوانات ضالة حتي! صحراء علي مرمى البصر! يمشي مسرعاً إلي الأمام..يتوقف..يتلفت في جميع النواحي كالمجنون..يهلع قليلاً .. يمشي أسرع..يجري ..يجد أطفالاً يلعبون كرة القدم علي مرمي  البصر ..يهرع إليهم ..يهللون لرؤيته و يتضاحكون فيما بينهم ،و يرمي أحدهم إليه الكرة..يكتشف انهن بنات صغيرات ربما في المدرسة الإعدادية ..يضحك و يتلقف الكرة علي ظاهر قدمه بحرفنة .يرواغ قليلاً . و يسجل هدفاً ! تضحك الصغيرات و  إحداهن تحتضنه..يجدها أخته! يضحك و يقبلها قائلاً:"بتزوّغي من المدرسة علشان تلعبي كورة!" فترد بانبساط:"مانت كمان كنت كده..ماما حكتلي..بس أنت طلعت حريف يعني! "..يعطيها الكيس الذي يحمله بعباءة أمه و الاسطوانة و يخبرها أن تعود إلي البيت باكراً..يرن هاتفه ..يلتفت ليرد ..فلا يجيبه أحد .. و يجد المشهد قد تبخّر ! يتلفت حوله ..يمشي قليلاً فيجد شيخاً علي عتبة منزل يحاول النزول..يمشي إليه يحاول الإمساك بيده : فيتهدل صوت الشيخ في ملاقاة عينيه : "
يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا
" .. فيسأله عن الرغبة في الموت و علاقتها بعبور العتبة.. يصرخ الشيخ : "هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ"! و يخرج عصا من خلفه يتوكأ عليها و يمضي..يذبهل صديقنا ..يفكر في اتباع الشيخ .. يفكر في خاطر مضحك..ماذا حدث للمجانين الماشين في الشوارع صارخين "يا ولاد المتناكة"؟! هو شخصياً يعرف اثنين منهم في منطقتين مختلفتين ..متي ذهبوا و حل محلهم شيوخ  لا يتحدثون إلا بالقرآن؟

ينظر في ساعة يده ..إنها تقترب من الثامنة..يدّق قلبه بدلاً من الساعة .. يفكر في الذهاب إلي المحطة .. أيذهب؟ تأتي الإجابة في صورة "ميني باص"متهالك كُتب علي واجهته "رمسيس" يشير إليه بعنف ..فيقف..يركب..ينظر إليه السائق نظرة ودودة و هو يأخذ ثمن التذكرة..يجلس علي أقرب مقعد بجانب شاب يحمل راديو صغير،يتابع بشغف أخباراً عن حرب دائرة في مكان ما..سقوط ضحايا من الجانبين ..لا تعبروا الآن من شارع النيل..احترسوا من المرور فوق كوبري عباس! يصاب بذهول..إلي أين يأخذه هذا الميني باص المجنون؟ رحلة زمنية إلي أيام الإحتلال أم أن هناك كوبري عبّاس في غزة؟؟ يسأل الشاب متوجساً إذا كان هناك ما يقلق في الطريق؟ يجيبه الشاب بابتسامة غامضة :"شوف محطة مصر بقت عاملة إزاي؟" و هو يشير إلي الخارج.. المحطة! يوقف الميني باص و ينزل ..يجري إلي الداخل..الساعة تشير إلي الثامنة إلا عشر دقائق..يجد رصيف رقم خمسة و يجد لنفسه مكاناً يجلس فيه إلي جانب الحائط الموازي للكافتيريا..يفكر، كيف سيعرف البنت؟..لايعرف..هي ستعرفه..ماذا سيفعل بها أو معها؟..لا يعرف..هي ستعرف..يكفيه مشقة الوصول إليها في هذا اليوم الغريب..يرجع رأسه للوراء..يداعب النوم عينيه قليلاً و لكنه يفيق علي صوت صافرة القطار و الميكروفون يعلن عن وصوله..يقف و يتحفّز جسده ..يتوالى نزول الركاب من العربات ..يقلّب البصر فيهم علّه يلمح بنتاً لم تجف الدموع في عينيها بعد ..

تابعتني إلي هنا؟ تريد أن تعرف ما حدث؟ حسناً ..أغوَتك روح شهرزاد في الحكاية يا صديقي و ربحتُ أنا الجولة الأولى .. في المرة القادمة..سأحكي لك عن البهجة..بهجة اللُقيا بلا ميعاد .

Comments