المِشخصَاتيَّة (مسرحيّة لا يُسدَل عليها السِّتار)




المشهد الأوّل: الخرُوج.

من فوق شواشِي الدُرة.. غنِّت دُنيا مسعود للقاهرة من قلب الإسكندريّة، بعد دراستها للمسرح في كليّة الآداب السكندريّة، قررت أن تترك كُل شيء خلفها وتتبع غواية المسرح إلى العاصِمة في منتصف التسعينيّات.
يعرفها أغلب الناس كمُغنيّة، لكّن دُنيا مسعود عندما تتحدث عن "الغُنا" فإنها تمنحه جزءاً من عِشقها الأصيل للمسرح، تقول " أنا ماعملتش حاجة للمزّيكا"، "ولائي الأوّل والأخير للمسرَح، والمسرَح زي القاهرة، ياكُل وينكِر واللي يحبُّه ويجري وراه يبهدلُه، وقد كان".
 ومشوار دُنيا كان صعباً. اضطرّت للعمل كثيراً، نهاراً في محلات ملابس أو جِزارة أو محلّات حلاقة "كوافير" أو نادلة وغيرُه وغيرُه، ومع نهاية يوم العمل الطويل، كانت تعود إلى بروفاتها المسرحية وحفلاتها الغنائية مساءً، تقول" أنا جرّبت أشتغل حاجات تانية زي باقي الخَلق، ومانفعش..فليذهب العُمر مع أي شُغلة ما بنحبّهاش إلى الجحيم..فيه ناس كتير في الدُّنيا بتعيش وتموت بتعمل كل الحاجات اللي ما بتحبّهاش عشان يلاقوا يعيشوا، فيلاقوا يعيشوا بس يموتوا من غير ما يعيشوا".

وحُب "دنيا" كان المسرح، وندّاهتها أيضاً.


عاللّي اتغرِّب
http://youtu.be/M6flLBm2mD0

المشهد الثاني: خَشَبة المسرح الأولى.
"ثلاث خَبَطات مُنفصلة مُتتالية على خَشَبة المسرح".. وينشّق الستار عن "المُحترفة" للمرّة الأولى مع الكاتب 
المسرحي "لينين الرملي" في "جنون البشر" عام (1996)، و بعدها "مساء الخير يا مصر" لناصر عبد المنعم (1997) إلى جانب سوسن بدر ومحمد منير، ولكن الفُلكلور كان يختار لها قصّة أخرى، قالت دُنيا: حدث ذلك بعدما شاركت فى مسرحية «خالتى صفية والدير» مع المخرج ناصر عبدالمنعم وقدّمت بها بعض أغاني الفولكور وكانت المرة الأولى التى أقوم فيها بذلك على المسرح واستمتعت جداً"، بعدها قابَلت الفنان فتحي سلامة وكانت أوّل مرّة تظهر على مسرح دار الأوبرا كمغنيّة،كانت معه عام ( 2001) مع فرقة "شرقيّات"، وطلب أن يقدمّها بشكل جديد في فرقته التي كانت وقتها تُعيد إنتاج الموسيقى الشعبيّة وتُقدّمها للجمهور، وساند تكوينها لفرقة خاصّة بها.
بتنادِيني تاني ليه:
http://youtu.be/wjk1cdmKA4g

المشهد الثالث: فيونكات دُنيا.
حواديت الفُلكلور على مقاسِي علشان ألاقي خشَبِة مَسْرح تِلِّمني" تقُول دنيا عن البدايات، وعن إختيار تأسيس فِرقة "فيونكات دُنيا" في (2001) فهي تحب المَسرَح ولا تقبل فيه أقّل من أحلامها، فاختارت آلة الكوَلة والإيقاع فقط ليُصاحِباها، كانت تختار كأنها تخلق مشهداً درامياً بالآلات المُصاحبة للأغاني، وبالفعل كانت تُعامل كُل أغنية كأنها مشهد على المسرح كما قالت في حوارات سابِقة "". 
".. وتبقى الأغنية بالنسبة لي: مشهد على المسرح.. ولكلّ واحد فينا، جملة حواريّة في النصّ. وبالتالي كلّ واحد يجب ألّا يكون فقط خرّيج أكاديميّة. مع الوقت، اكتشفتُ أنّ أفضل العازفين ليسوا أكاديميين (بالمرّة)... يجب أن يكون ممثّل "كويّس" بمعنى أنّ يتمتّع بالحسّ، يشتغلون على أنفسهم كثيراً بغضّ النظر عن المكان، ومستعدّين دائماً لمواجهة الحضُور".

أنا اللّي بابيع ياسمين:
http://youtu.be/ORZLjCrUsHE

المشهد الرابع: غوايَة.
"تقُول دُنيا عندما أسألها على عواصم العالم التي أستضافتها، أيُّ مدينة كانت قُرب القلب؟ تُعدِّد:"القاهرة، بيروت، مالمو، روما، باريس، جهنّم الحمرا"  أي مدينة بتوقّفني على خشَبَة وتدِّيني ميكروفون وجمهور، هيّ مدينة بتفتح لي بيت" . يظّل وطنها هوّ المسرح، وعلاقتها مع "الوحش ذو الألف رأس" هي الأمتع على الإطلاق، على حَد تعبيرها، تَضحَك حين أسألها عن الوحش ذو الألف رأس، تقول: " التسميّة هي أول سطر تعلّمناه في المسرح، مسرح يعني خشبة وفنان وجمهور، والجمهور وحش ذو ألف رأس.. لو أرضيتي 999 رأس، سيظّل هناك رأس لم يرضى، ولذلك الفنان الحقيقي لا يسعى لإرضاء الوحش، وإنمّا يسعى لترويضه".

لكن كل هذا الشّغف بالمسرح والتمثيل، لا يمنعُه غيرة من مواهب أُخرى أحياناً، تحكي دُنيا وهي في مونبلييه " كنت على شاطئ البحر، بالأمس، رأيت جميلة تَخرُج من البحر كأنها تخرُج من كتاب الإغواء الأخير للمسيح، في هذه اللحظة، كنت في منتهى الغيرة من الرسّامين، هيقدروا يرسموها وأنا لأ، والشُّعرا هايقدروا يوصوفوها وأنا لأ، وكلُّهم سينتشُون بقُدرتهم على وصفها، لو كان بإيدي أختار موهبتي، كنت هاختار الرسّم أو الكتابة، علشان النشوَة اللي بيوصَل لها المُبدعين دُول مش مرتبطة شرطياً بالجمهور..مش مُجبرين يواجهوا الوحش".

نعناَع الجنينة:
http://youtu.be/g6Ftnmhvow8

تناقُض، أسألها عنّه، فتبتسم وتقول: "لجْل الورد يِنسقِي العُلِّيق.. المسرح بيدِّيني فُرصة حياة شخص تاني، وده كنز..بس شرط الوصُول له إنك تواجهي الوَحش..دي حظُوظ.. الكاتب زيّ ربّنا بيستمتع بالخَلق نفسُه..المَسْرَحجي بيستمتِع بممارسة الحياة اللي هو سَرقها من حد تاني..بيستمتِع بممارسة الحياة دي".
أسألها عن علاقتها بالسينما، وهي التي عملت مع الكبير "محمد خان" في شقّة مصر الجديدة"، وخيري بشارة في "قلب حبيبة"، هل بنفْس قُرب المسرح؟ تقول : " لأ في السينما أنا دايماً واعية باللي حواليّا، مهمّتي إقناع اللي هيتفرِّج إني الشخص اللي بأدّي دُوره، مافيش مواجهة مع جمهور، بتفضِل فيه حِتّة كذب كده يغطِّيها المونتاج مرّة والإضاءة مرّة وإعادة المشهد وهكذا، فيه 100 شخص في البلاتُوه بيفكروكي بنفسِك طول الوقت، في المسرح مافيش إعادة، فلازم تنزلي من بيتك تروحي المسرح وإنتي الشخص اللي بتمثلّيه، ولازم أصدَّق لمدِّة العرض إنِّي حَد تاني بالفعل، الفُرصة دي للإستغراق قليلاً ما تتُاح في السينما، قليل جداً من النجوم بيقدروا يعملوها، وهمّا اللي بيقدروا يمثّلوا سينما بس بمدارس المسرح، ده طبعاً بيشترط مخرج وإنتاج وجو عام يسمح بيه."
اللون الأزرق:
http://youtu.be/YJGxPmsb3TQ


المشهد الخامس: 9 قطع من الشهّوة:

على مدار المشوار الطويل لدُنيا، فازت مسرحيّة "9 قطع من الشّهوة" بالذكريات الصعبة، علاقة مُعقّدة جداً 
ومُضطربة بين فنانة تُحب المسرح وتُبجِّله تماماً وبين "هُدى" المناضلة اليساريّة العراقيّة العجوزة، التي أنتهى بها الأمر إلى الحياة في لندن فراراً من بَطْش البعثيين في العراق، يُمزِّقها الإحساس بالذنب لأنها هربت وتركت مجتمعها فريسة الأصوليين والعساكر، لكنها بدلاً من الإعتراف بالذنب تتبرَّع بتبرير نَفسها في المكان.
حَكت دُنيا حكايتها مع هدى: " هُدى رغم أنها واحدة من 3 شخصيّات بالعبها في المسرحيّة دي، وبدت للوهلة الأولى أسهلهم فيما عدا إني بامثّلها بالإنجليزي، إلا أنها كانت شرّيرة وإنتقاميّة، الشخصيّات التانية اللي توقّعت يضايقوني ما عملوش كده رغم إن واحدة منهم معدِّدة ومتمرّغَة في النواح والأسود."
مشاهد لهُدى في "9 قطع من الشهوة"
"هُدى كانت نموذج المُثقَّف السبعيناتي الخاين، اللي طُول عمري باشُوفه في وسط البلد وبارات الحَمرا وطَنجَة وتونس، ولأنها عارفة ذنبها في جريمة تخلِّيها عن مُجتمعها بتلعب نفس لعبة العاجزين بتوعنا بتُوع ما تطالبنيش أخوض لك معركتك و بتوع يا إسلاموفوبيا، هيّ كمان بتبدأ دفاعها عن نفسها بالهجوم على الآخرين، وأنا عملت وسوّيت، خلِّي بقى الجُداد يتحملّوا مسؤولية نفسهُم وما إلى ذلك، سبب الإضطراب في الموضوع ده كلُّه إني لأول مرة كنت بامثل شخصيّة وأنا باحاكمها! باسمع صوتها ومُبرراتها وهيّ بتتكلم ..بودن دُنيا اللي بتحتَقِر الخِطاب ده، لدرجة إنها لمدة شهرين البروفات كانت بتجيلي في الكوابيس، و تقولّي إنتي فاكرة نفسِك أشرف منِّي؟! هاتحصّليني، وهافضل أنا برضو في عين التاريخ البطّلة وإنتي المتواطئة، وفي الوقت ده من حياتي كمان كان مستحيل أسيب القاهرة، وبعد ما مشِيت منها رجعت تجيلي في أحلامي تاني وأنا في مالمو – السويد، خاصّة اليوم اللي صحيت فيه على خبر تكسير الإخوان لأكشاك الكُتُب في شارع النبي دانيال – الإسكندريّة.
أسألها عن حدود اللعبة.. هل التماهي محكوم بحدود الشخصيّة؟ فيصعُب حين تصل الشخصيّة إلى ضِدِّك؟
فترُد : المتعة في اللعبة نفسها، مش في نوع الحياة اللي بتسرقيها، وإلا إيه المُمتع ف شخصية المعدِّدة او الشخصية التالتة في المسرحيّة بيّاعة الروبابيكيا ؟ كيف يمكنك التخلُّص من ذاتك لمدة نصف ساعة وتكوني أي شيء آخر، زيّ تمرين المسرح اللي ياما اتريَقنا عليه وهوّ عظيم، المُخرج يطلب منك في المحاضرة تكوني شجرة أو حيَّة أو ورَقة، أو تعملي نفسِك صِلصال وتسيبي نفسِك لرغبة زميلك يشكِّلك زي ماهو عايز، أصعب فقرة هيّ التخلِّي عن الذات الواعية، شي صعب وفخ اكتشفته لمّا اصطدمت بشخصيّة أنا باحاكمها، التدريب ده كان وأنا عندي 17 سنة في الجامعة، والمسرحيّة بعدُه ب 19 سنة.

9إعلان قطع للشهوَة.
http://youtu.be/CTWyg1nj5dQ

المشهد السادس: المِشخصاتيَّة.
لَعبة التماهي، كانت هي مدخل دُنيا إلى حواديت الفُلكلور، باب إستمتاعها بدُور الرجل المهجور في "بتناديني تاني ليه" ذات الأصل الغَجري، ومرات الإبن في "مش عيب عليكي"، والشاب الحبّيب في "نعناع الجنِينة" في أسوان، هوّ الذي مكنها من استحضار تراث الغناء الجماعي النسائي لرحيل رجالهم في "عَ اللي تغرَّب"، ثم التنقُّل بسلاسة لغُنا البنات في ليلة الحِنّة في " حِن عَ القُلِّة" في الدلتا، وتنسجم مع أغاني الصيّادين والبمبوطيّة في "يالالي"، وتتألَّق في "جرحِي" من تراث الكفّ الجعفري وهو غِناء أعراس الصعيد، وتطير فوق "شواشِي الدُرة"، وتتدلَّع في " عليل جريح" لبدريَّة السيّد.
عليل جريح :

وتَصِل إلى ذروة أداءَها على المسرح في "حِلم" كلمات نجيب سرور من مسرحيّة "بهيّة وياسين"، فتطغى على الجميع وتُهيمن على الوحش ذو الألف رأس.
حِلْم:
https://www.youtube.com/watch?v=fuXRMJfkK60

تقول دُنيا: "هذا هو السِّحر الذي جرجرني إلى أغاني الفلكور، لو لم أعرفها في المقام الأوّل كنت سأغنِّي لوحات غنائيّة قائمة على التشخيص، مثل الليلة الكبيرة وجُوز الخيل والدندُرمَة وأغاني مسرحيّات زياد الرحباني." وبالفِعل تلوُّنها على كُل ناحية في جُزء من سيرة أيُّوب ونعْسَة دليل كافي:
أيُّوب ونعْسَة:
http://youtu.be/BT8M5YZgBEU

دُنيا الآن مُقيمة في باريس – فرنسا، بعد هذه الرحلة الطويلة التي لم نذكر كُل محطّاتها بالطبع، لكن كانت "مَسْرَحة حواديت الأغاني هي الهديّة التي جاءت لها على طبق الفلكلور المصري، حتى لا تمُوت ناقصة تمثيل."
ولا يُنقصنا إلّا رؤياها.
غُربة ومروَّحين يا حبيبي، غُربة ومرَّوحين.
http://youtu.be/QczMn-X44qU



Comments

3aziz 3eni said…
عندك حق فعلا