ألْف كَلِمة عن البِدايَات


يقول واسِيني الأعرج: "أصعَب الأشياء في الحياة هي البدايَات. عليها تترتّب كُل الحماقات اللاحقة" .. وأنا أصدّقه إلى حد كبير.. إلى حد أن أغلب الأمُور الكبيرة في حياتي، كانت بداياتها صعبة ومُرهقة تماماً، كان الأمر يصل في أحيان كثيرة إلى الاستغراق في البداية كأن المنتصف لن يحدُث أبداً، وعندما يهّل المنتصف كان لا يُصدّق، من فرط ما طالَت البداية..
نعرف تقسِيم الحكايات التقليدي: البداية، المنتصف، النهاية.
 الروائيون وأصحاب النَّفَس الطويل في الكتابة، يتسابقُون في التأصِيل لروْعة البدايات، ومَدْ الحكايات عبر المنتصف، والبحث عن النهاية المُناسبة المُنسابَة، وكما هي البدايات صعبة في رأي واسيني الأعرج، فقد أحتار الأدباء في النهايات أيضاً، ربما لهذا اخترعوا مُصطلح النهاية المفتوحة، النهاية التي تقود دائماً إلى بداية جديدة..
وللشُعراء نصيبٌ كبير من الغرام بالبدايات أيضاً، فلقد أراد محمود درويش من الحُب البداية فقط، ثم عاد وأكّد، "أن تكُون بداية الأشياء دائِمة البداية".
"لولا سِحر البدايات لتوقّف الكون عن الحركة" إذن، كما يُقر عمر طاهر، ولما طَال الطريق في خط مُستقيم، ولما انقضى الزمن في عدّة دوائر، السحر يجذُب البشر إلى التجريب، خطوة إلى الأمام، وخطوة أخرى، وتسير الدُنيا وتتغيّر
بينما يختلف أرسطو مع سقراط في هل التساؤل هو بداية الحكمة كما بدأ سقراط أم أن بدايتها هو مَعْرفة النفس كما يتفلسَف أرسطو، قررّت البشرية أن تتعلّم بالتجربة والخطأ، ووجدنا أنفُسنا نبدأ أشياء فقط لنعرف أنها يجب أن تنتهي، أو أنها ما كانت يجب أن تحدُث، أو أنها كانت يجب أن تحدث حتى لا نُكررها مجدداً ولا نفعلها مرة ثانية أبداً، لنعرف في آخر الأمر شكل البدايات التي يجب أن نهرُب منها فعلاً.
يقترب ألبير كامو من هنا، فيلسوف الوجود الهادِئ، يقول أنه "لا بأس إذا كانت البدايات سخيفة، فكُل الأعمال العظيمة والأفكار العظيمة بدأت كذلك"، ولعلّك تتذكر الآن وأنت تقرأ عدّة اختيارات مصيرية في حياتك، بدأت بالطريقة الأسوأ على الإطلاق، وعِدة صداقات بدأت بمعركة أو بخبطَة على الرأس، كما يقول ماركوس زوسَاك، فإن
"كُرة ثلج في الوجه هي بالتأكيد الطريقة الأكيدة لبداية صداقة دائمة"
بدايات الصداقات دائماً ما تكون عجيبة، أذكُر أن صداقة بدأت بكراهية شديدة، ثم تحوّلت لمحبة وارتباط شديد استمر لأعوام ومستمر حتّى الآن، وصداقة كانت محبة شديدة في البداية وانتهت بعد شهور قليلة!
هناك صداقة بدأت في مأزق تعرّضت له في العمل، وهناك أخرى بدأت من التضامن الأثيري بين جيل من مُستخدمي المدونات، هروباً من الواقع الضّحل وبحثاً عن آخرين يشبهوننا في مساحات حُرة للتعبير عن الرأي والاهتمامات.
تشاركت الصداقات الدائمة، في كُرة الثلج، فلا تبخل على أصدقاءك بكُرات الثلج على الوجه، واستمروا دوماً في إلقائها أملاً في إيجاد مسارات جديدة لوجودكم معاً لما تبقّى من العُمر.
للحُب قصة مختلفة كالعادة، ربّما بدأت قصص الحُب في أغلب الأحوال بتعارف لطيف، ولكنها بدأت عند آخرين بنظرة متبادلة، وبدأت عند آخرين بعداوة أحبّوا بعضهم بعدها، تقاطعت المسارات، لكن الحُب يبدأ عند توماس مِرتون، بإرادة أن نترك اللذين نحبُّهم ليكونوا أنفسهم تماماً، محاولين ألا نلوي حقائقهم ليناسبوا تخيّلنا عنهم.
قد يكون الشعور الغريب الذي يجتاحنا حين ننظر للمحبوب، هو بداية الحُب فعلاً، لكن استمرار البداية، هي هذه الإرادة، أن يكون المحب في وجودنا كما هو نفسه، وكما يُحب أن يكون.
تحمِلنا بدايات الحُب دائماً إلى التساؤلات حول النهاية، يرى محمود درويش هنا أن ما ينتهي ليس حُباً، ف "الحُب دائماً في حاجة إلى أن يُعاش لا إلى أن يُتذكّر"، ربما اتفّق معه جزئياً، لا أحد يُريد أن يعيش حُباً في الخيال بالطبع، لكن الأمر ليس بأيدينا دوماً، ألم يُصارحنا بهاء طاهر بحقيقة قُدراتنا:
"قبل أن تُشجّع على البدايات كان يجب أن تفهم أنك لا تستطيع أن ترسِم النهايات"
وهذا يقودنا مرة أخرى إلى المأزق.. ماذا إذا كانت النهاية بداية أخرى؟  وكُل خاتمة للمقال تقود إلى بداية آخر؟ وكُل وداع بيننا يستحيل سلاماً في المرّة التالية؟
ماذا إذا كان الحُب لا ينتهي أبداً؟
"الحكاية لا تنتهي عندما تنتهي، الحكاية تبدأ، وحين تبدأ، يكون عليها أن تواصل هذه البداية إلى بداية أخرى." كما حُوصِر إبراهيم نصر الله، وخرَج بأن "البداية إنسانية كالسؤال، أما النهاية قاتِلة كالإجابة"
إنسانيّة السؤال، تكمُن في الاحتمالات المفتوحة على إطلاقها، في رحلة البحث، إنسانية البداية، أنها تترك دائماً فُرصة للمنتصف، تتألق فيها البراعة الإنسانية في خلق الأحداث والصفات والعلاقات والمسارات، البداية فُرصة متكررة أن تفعلها أحسن، وأن تُجيدها أكثر، أن تستكشف وأن تفتَح الشبابيك والشُرفات، وأن تمشي وراء أشّعة الشمس وذراّت التُراب إلى أي مدَى، لكن النهاية دائماً – مهما بلغ الحسم بالمنُاسبة – لحظة يمتد أثرَها لما بعدها، حتى لو بَعُد الوليف، وحتى لو اتسعت لك بلادٌ أخرى، حتّى لو غيّرت شخصيّتك وعملَك، فيها ما يقضُ المضجع، وتظّل "البداية أرحَم".
"هكذا لن تنتهي الحكايا. ذلك لأن الحكايا دوائرٌ وفي داخلها دوائرٌ أخرى ومن حوْلها دوائر أوسع. و ليست كُل الدوائر واضحة. أحياناً, بل كثيراً, ما تتداخل. وهنا يبزغ التساؤل. أين نقطة النون؟ أين بدايات الحدث وإلى أين تذهب انحناءاته؟ أم نحن الذين سنذهَب بها؟ عندئذ يمكننا أن نبدأ دوما بـ"اخترت أن أبدأ الحكاية من نقطة ..."
نحن نختار البداية قليلاً إذن كما توصّلت سحر الموجي، على الأقل نختار أن نعتبر هذه بداية.. هل يمكن أن نقول أننا نختار البداية الثانية؟
بالتأكيد، إذا انتظرنا اللحظة التي يكون فيها كُل شيء، بالقطع كُل شيء، جاهز، فلن نبدأ أبداً، ولهذا كان هناك الأمل المُقيم أن اللحظة التي نبدأ فيها أو نختارها للبداية، هي اللحظة "الأنسب"، وربما لهذا كانت البدايات تتأخر عن المتوقع، فالبداية تنتظر أن ترغبها تماماً، أن تتأكد أنك قادر عليها، وأنها في نفس الوقت دافعك الأصيل، عَوزٌ كاملٌ للبدء من جديد، عندها لن يهُم الوقت، وستكون البداية كأروَع ممّا تتخيّل.
في عالمٍ آخر أكثر إشراقاً من عالمنا هذا، تكون كُل اللحظات القادمة، فرصة جديدة، وأمل في أن الحكاية لم تنتهِ بعد، وأن هناك حكايات جديدة على وشك أن تبدأ، ربّما هنا يُمكننا أن نفوّت الساعات ونتمسّك بالأيّام مُراعاةً للوضع الإقليمي..
فإذا كان الغد، بداية جديدة لم نُخطئ فيها بعد، وحكاية لم يفُتنا منتصفها، ونهاية لا نعلم متى تأتِ، فالأسبوع فُرصة، والشهر فُرصة، والسنين القادمة فُرص كثيرة، حكايات وبدايات "أرحَم" بالإنسانيّة مما انتهت إليه.
لقد بدأ هذا المقال، من العنوان، من ألف كلمة سَطَعوا في رأسي عن البدايات، قالها صُنّاع عوالم مُلهِمة على مدى قراءاتي، وانتهى إلى احتفاء بكُل ما تقدّمه الحياة كسلسة من الحكايات الطويلة الدائريّة، والأهم، كعُقْد من البدايات الغير متوقّعة، يبدو مناسباً تماماً الآن أن نُصدِّق ريلكه قليلاً، بكُل ما يحملُه من رقّة، ومن نفسٍ طويلٍ في الحُب والشِّعر، و"نرحّب بالسنة الجديدة، المليئة بكُل ما لم يحدُث من قبل".

Comments