عين القَلب

“ ماذا تفيد النصيحة مع قلب أصابُه عطب العِشق؟ “

ترّن في رأسي هذهِ الجُملة من “قمر على سمرقند” للمنسي قنديل، ,وأنا أمدُّ الخُطى في نهار ذلك اليوم.. في جولة سريعة في حيّ الصاغة.. ساقتنا أقدامنا إلى محل صغير في حارة ضيّقة لم نكُن نعرف عنها شيئاً من قبل، ابتعت شالاً تقليدياً ملوّناً .. ودخلت لأدفع ثمنه بصعوبة من الباب الذي وُضع في الجدار كيفما اتفق، لأرى أروع مجمُوعة من الفضّة القديمة على الجدران أمامي! يقول البائع حين يلاحظ انبهاري أنها فضّة “أفغانيّة” اتذكّر على الفور سمرقند.. أتذكّر الصور التي أشاهدها محاولةً تركيب الرواية على الصور، واللحظات التي أمسكت فيها الخريطة أريد أن أعرف أين أوزبكستان وأفغانستان و طاجكستان.. أمسك بقطعة مشغولة ثقيلة مكوّنة من ثلاث سلاسل كبيرة وكُل منها تحمل قطعاً مربّعة مرصّعة ومنقوشة، فأرى شوارع بخاري بعيني، وألمَح المرأة العرّافة التي أريدها أن تقرأ طالعي وهي تسير في السوق متمّهلة، تنتظر الزبائن ذوي الجيوب الثقيلة، أسير وراءها فتقول “ كبرتِ يا صغيرتي وصرتِ أكثر حذراً وأقّل اندفاعاً “ أهتف: ولكنّي أحاول! 
تضحك وتقول: حاولي أكثر وأكثر! الخوف مرض وأنتِ لن تعيشي كثيراً، فلا تدعي المرض يُقعدك.. أقول بأسى: لن أعيش كثيراً؟ ولكنّي أريد أن أسافر .. أريد أن أسافر وتكون لي قطعةً من التراب أعود إليها في كُل مرّة.. لا قطعةً من التراب تحدُّ روحي .. تضحك مجدداً .. وتنحني لتمسك بخلخاليّ قدميها الثقيلين وتقول : انظري! 
فأنظر.. وأفيق على يدي ممسكةً بالخلخال الثقيل.. أريده بأي ثمن.. لكن كُل نقود العالم لا تكفي ..



أمسك بقطعة أخرى، مربّع ثقيل من الفضّة، منحوت في داخله مرايا مستديرة صغيرة، فضّة مصقولة، يداخلها معادن أخرى تحاول أن تضيف لوناً وردياً للمعدن القديم، فتلمع فيها صورة الإمبراطورة التي رفضت الإمبراطور، وأحبّت بنّاء القصر الذي كان يبنيه ليكسب ودّها، لقد رفضت الإمبراطور شهوراً .. ليعود من الحرب في يوم، فيجدها في أحضان المهندس تحت القُبّة العالية التي أنجزها ولم يقدر على ذلك أبرع مُهندسي آسيا، فيقتلهما معاً، وتبقى الفضّة الورديّة بجانبهما في قلب ضريح "بيبي خاتون" الذي يحج إليه العشّاق من كُل أنحاء العالم.

أجفَل .. أمسك بحلقٍ آخر.. يبدو ثقيلاً جداً على الأذن، وربّما هذهِ السلسلة كانت تصل إلى ثقب الأنف أيضاً، أتخيّل كيف يبدو على وجهي، فأسمَع صوت حبيبة تقول لحبيبها الذي يحاول الرقص على أنغام الموسيقى الشعبيّة " كأنّك طير صغير يتعلّم الطيران، تبتسم له وهوَ ينظر لها يريد أن ينال استحسانها.. وتقول: المهم أن تدَع البهجة تتسلل إلى داخلك"

أتركهما وأذهب إلى صديريّة عريضة من الفضّة، ثقيلة ورائعة، مُطعّمة بالأحجارالمُنمنمَة وتتدلّى منها السلاسل الصغيرة، هل يمكن أن أرتديها يوماً؟ أضعها على صدري وأتلمّس برودة الفضّة على جلدي.. لأشعُر بأنفاسك فجأة على عُنقي.. تقول في محاولة لإغاظتي " ما أنتِ إلّا فتاةٌ عاديّة".. أقول.. أنا كذلك.. هذهِ اللمسة هيَ ما تنزع عنّي العاديّة، ابتعد قليلاً لأعود إلى نفْسي.. تضحك .. وأنا أسألك: تعجبك؟
تقول جداً، وتمدُ يداً لنجري ونحتمي من المُطر المفاجئ على ساحة السوق، أترك الصديريّة وأهرب معك، أجري حافيَة القدمين، في شوارع بخاري المُبللة بالمطر، وفي أزقّتها التي تعبق برائحة الغواية والتوابل، لا أعرف إلى أين سنذهب ولا متى سنَصل، أسمع جرساً متناسقاً، فأنظر إلى قدميّ لأجد خلاخيل المرأة الغجريّة الثقيلة..

Comments