الحكاية و ما فيها

ربما تحتاج أن تستعيد هذه مرةً أخرى .. أعلم أنك سمعتها من قبل ،لكن ذكّر ،فإن الذكرى تنفع:

و بالمثل..فإن:  

البنت التي تستيقظ كل يوم علي صوت بائع الروبابيكا في تمام السابعة صباحاً "كراكييييب قدييييمة للبيع" تفتح عينيها مرةً .. و اثنتين..و الثالثة : تقوم من السرير بحركة مفاجئة ..تكتشف أن الساعة أصبحت الثامنة و النصف ! تجري علي الحمام ثم تقفز في ملابسها ثم تهرع إلي السلّم .. تشير إلي التاكسيات بجنون..لا يوجد وقت الآن لانتظار المواصلات الأخرى..يقف لها أحدهم فتستقلّه ..تصل إلي العمل..تصعد السلالم وثباً ..الساعة تشير إلي التاسعة و الربع..تحمد الله علي نِعَمِه و تدخل إلي مكتبها ..
كأنها سقطت في كوب من الحليب! بياض تام ! فراغ ! تتلفت حولها باندهاش.. تحاول أن تصل إلي الحوائط لتتلمس الطريق ..لا حوائط..لا حدود ..تهلع! تصرخ! تنادي علي زملائها واحداً واحداً ..تنادي علي أبيها و أمها و أخويها .. و لا مجيب.. تُخرج الهاتف و تتصل بكل الأرقام التي عليه..لا يجيبها أحد .. تجلس في مكانها متقوقعةً تبكي ..يرن الهاتف فجأة .. "ألو .. حبيبتي انتي فين؟" تخبره أنها ليست حبيبة أحد .. يرد " حبيبتي أنا علي..ردي عليا..أنتي فين؟" ثم يتشوّش الصوت و ينقطع الإتصال..تتصل علي الرقم كثيراً..الوحيد الذي يلتقط هاتفها شبكته ..لا يرد..ثم تجد الهاتف مغلقاً ..
تسمع صوت موسيقى خلفها فتستدير لتجد فرقة كاملة تعزف مقطوعة شرقية..تقوم و تجري إليهم و تقف أمامهم مشدوهة ..تندمج مع الأنغام و تتمايل راقصة قليلاً..ثم كثيراً .. كأنها علي المسرح ..تنتهي المقطوعة لتجد هناك من يحتضنها ضاحكاً .. لتجده أخيها الأصغر ..ممسكاً ب " رِق" و هازاً يده ليصدر صوتاً محيياً .. تضحك..أنت انضميت للفرقة دي امتى؟ فيجيبها " بقالي بتاع سنة ..بس إوعي تقولي لبابا ..طول عمرك بتحبّي الرق .. و طول عمري باشوف وسطك متعلّق بيه ف أي رقصة" تضحك .. و تقول له لنعد إلي المنزل سوياً فيخبرها أنه يجب أن يذهب مع واحد من أصدقائه إلي المحطة القريبة ..يرن هاتفها ، تمسكه لترد ..لتجد المشهد كله اختفى! تجزع قليلاً ..و لكنها تمشي ..إلي الأمام.. تجد أمامها بيتا قديماً يشبه في بناءه الأفران القديمة ..أو ربما المستوقدات التي كان تحرق فيها القمامة في الأيام العتيقة .. تجري إليه ..و تدخله متوجسة..تمشي في ممر طويل..ليصدمها في آخره بخار كثيف و سخونة .. تنظر لتجد مجموعة من النساء عاريات تماماً ! يجلسن حول مغطس صغير ..بعضهن يجلس في المياه و الأخريات علي الجانبين يتم تدليكهن و العناية بأجسادهن..تخطفها حيزبونة سمينة ..تخلع عنها ملابسها و تقودها إلي المغطس .. تنزلق في الماء الساخن .. تُخرجها .. تحاول تغطية نهديها بكفّيها و لكن العجوز تمنعها و تضحك بقية النسوة ..تدلكها بحرفيّة و تخبرها أن تستحم و ترتدي ملابسها ريثما تذهب للمحطة القريبة و تعود لتأخذ منها النقود ..في الوقت الذي انتهت من ارتداء الجاكيت .. وجدت نفسها في منطقة زراعية...غيطان علي الجانبين و هي علي جانب طريق عام..الهاتف يرن و ترد " طيب أستناكي فين طيب..المحطة؟!"..تصرخ.."علي؟! " يغلق الخط..تدمع عيناها ..لقد انتهت بطارية هاتفها..اللعنة! المحطة؟! أين الطريق إلي المحطة التي يذهب الجميع إليها؟
تمشي و قد نال منها التعب.. تجد كشك سجائر علي الطريق فتجّد السير إليه..تجد هاتفاً قديماً بالأجرة فتعيد طلب رقم بعينه مرات عديدة .. ينظر لها البائع متشككاً..خصوصا أن حجابها لا يبدو ملتزماً تماماً بخصلة الشعر التي تسقط علي جبينها..تبدو عيناها كذلك كأنها لم تتوقف عن البكاء - أو تعاطي المخدرات - منذ ثلاثة أيام .. تعيد الهاتف للبائع.. فيقول لها : " نَبكي على الدنْيا وما مِن مَعشرٍ .. جَمعتْهُم الدنيا فلَم يَتفرّقوا" تستغرب قليلاً و تسأله كيف عرف أنها كانت تبكي؟ " فيبتسم : "وَلَيسَ يَصِحّ في الأفهامِ شيءٌ .. إذا احتَاجَ النّهارُ إلى دَليلِ" تبتسم للمرة الأولى منذ بدأ هذا اليوم ، بائع يظنّ نفسه المتنبّي ! تسأله عن مكان تشحن فيه هاتفها ..يشير إلي خلفها بغموض قائلاً "أحُلماً نرى أم زماناً جَديدَا ؟" ..تنظر.. المحطة! تجد أمامها توك توك صغير ينتظرها..تركب ..كل شيء يقودها إلي المحطة! ..و "علي" على الجانب الآخر من المحطة ..تنظر في هاتفها لتجده يعمل! تتصل برقمه..يرد.."علي! أخيراً رديت علي التليفون!. ! أنا تعبت! هاجيلك!!"" علي باب المحطة الكبير تترجل .. تخاف..تمشي قليلاً ..تخاف..تفكّر
خفضت لك جناحي يا علي ..خفضت لك جناحي فاسبغ عليّ من الرحمة ما يحولُ بيني و بين الناس.. أتخون عينيك الإنتظار يا علي و تكتفي بالجمال؟
تفيق علي صوت سيدة تنهرها و تخبرها أن تنظر إلي موضع قدميها " ما تفتّحي يابت انتي ..انتي تايهة ولاّ إيه؟! " تعتذر و قد وجدت نفسها علي رصيف القطار تكاد تسقط علي القضبان الحديدية.. تجد لنفسها مكاناً تجلس فيه إلي جانب الحائط الموازي للكافتيريا..تفكر، كيف ستعرف علي؟..لا تعرف..هو سيعرفها..ماذا ستفعل به أو معه؟..لا تعرف..هو سيعرف..يكفيها مشقة الوصول إليه في هذا اليوم الغريب..ترجع رأسها للوراء..يداعب النوم عينيها قليلاً و لكنها تفيق علي صوت صافرة القطار و الميكروفون يهيب بالركاب الصعود..تقف و يتحفّز جسدها .. أتصعد؟ أتخوض الرحلة؟  تأخذ نفساً عميقاً ، و تصعد .. يسير القطار مقترباً من علي ..و تبتعد رائحة النيل عن أنفها مخبرةً إياها أنها ابتعدت عن أمانها كثيراً .. 

تابعتني إلي هنا هذه المرة أيضاً؟ تريد أن تعرف ما حدث؟ حسناً ..أغوَتك روح شهرزاد في الحكاية يا صديقي و ربحتُ أنا الجولة الثانية .. في المرة القادمة - إن صدَقْتَني- سأحكي لك عن البهجة..بهجة اللُقيا بلا ميعاد .

Comments

Mustafa Rizq said…
كدا 0/2 بس لي، والحقيقة إنه أكتر من 2 بكتير.
شكرا على الجمال
We2am said…
@M.R

شكراً علي حضورك و اهتمامك بالتعليق في زمن عزّ فيه زوّار المدونات..ناهيك علي إنهم يعلّقوا
:)