عَلَى سَفَرٍ
"تسأله الياء في اسم يُونس، إلى متى نحنُ في باطن الحوت؟
وتسأله الزاي في اسم زكريا، أيُّ حنانٍ ينقصنا لنكون معاً؟
وتسأله الباء في اسم أيّوب.. لمَ نصبر أكثر؟
وتسأله السين في اسم يوسف.. أيُّ جمالٍ بيننا ونضيّعُه؟
وتسأله الميم في اسم مريم..
بحق الحُب لا تبتعدْ."
في كثير من الحكايات، يبدو السفر بداية مناسبة للحكاية.. وأنا كحكاية تنْفرِط أحرفها على المرايا، لا أعرف دائماً من أين أبدأ، فجأة أجدني في منتصف الحكايات، في منتصف الوقت، في منتصف الشوط الأخير قبل النهاية، هذه المرّة.. وجدت نفْسي متأخرة كثيراً، وجدت نفسي على الحافّة..
تنفرُط مني الحكاية دون أن أرغب في حكايتها، عنقود عنب كامل التكوين في يدي، لكّن حبّاته تسري على المعصم، على المعصم، وعلى جسدي، تدخل في ثنايا الملابس اليوميّة، وتتسلل بعضٌ منها إلى حبّات العرَق، فأجد فرطاً من العنب على سريري، وعلى وسائدي، أصافح حكايتنا في أيدي الأصدقاء وفي سلام أصحاب السبيل، وأجد عناقيداً في المقاعد الخلفية للسيارات، وأزرع أخرى على كل طُرُق السّفر.
"وتسأله الميم في اسم مريم..
بحق الحُب لا تبتعد."
بحق الحُب لا تبتعد."
تنفرط حبّات العنب إلى حروف، حروف تذهب إلى مكانها المفضل على الصفحات البيضاء، تريد أن ترى لها مكاناً في قلبه أيضاً، حروفي تريد أن تكون حكايته المفضلة، تريد أن تصبح سطراً في أغنية يُغنّيها، أو شعراً يُردّده، حروفي تريد أن تكونه، أن ترسم شكل وجنتيه وشفتيه، أن تَبسِط عقْدة حاجبيه، وأن تردد صدى ضحكته..
تزور حروفاً أخرى حَفِظت لمسته..وحروفاً أخرى كانت تدرب نفسها على الشوك قبل الورد، ثم تُلقي محبّة على حروف كانت تسجل الأحلام، تحميها من الزمن، تحميها من الآخرين..
الآخرين!
لعنة الحكايات الثنائيّة.. لعنة الحُب المملة المكرورة، الآخرين!
لعنة الحُب الآخرين.
وأنا على سَفَرٍ، وحُبّي له فرط عنقود عنب أبديٌّ كامل التكوين، لا يبرح المكان لكني أرى أثر خُطاه في كل الأماكن كأصحاب الكرامات، أبديٌّ كأن الزمان توقّف عنده، ومستمرٌ كأنّ الزمان إلى ما لانهاية.
كنت على سفرٍ حين انفرط العقد منّي أوّل مرة بين يديه، أحببت السفر، تلك اللحظة التي غلَب فيها حنانُه خوفي بقُربٍ لا يخطؤه القلب، أيّ عشقٍ خرَجَ من قلب النيل هناك، ليُهدهِد خوفي كما فَعَل؟ أيُّ حُبٍ فاض من رُوحي لأتحدّث وأتحدّث وأحكي وأحكي.. كأني كنتُ أحكي له دوماً، وكأنه كان يُهدهِد خوفي على ركبتيه منذ ولدت.
"وتسأله الميم في اسم مريم..
بحق الحُب لا تبتعد."
بحق الحُب لا تبتعد."
كنت على سفرٍ حين اكتشفت أني أكتب عنه كثيراً، كثيراً جداً.. وأني أكتب عنه بوحي صافٍ لا تتخلله "الصنعة" أو "الحِرفة"، لعبة الكلام، تُضيف هذا إلى ذاك، وهذه الجملة إلى تلك، وتبدأ بهذا وتنتهي بذلك، فيكون لديك نصاً مُتماسكاً قويُّ البنية، كان يعجب الناس والصفحات الفارغة، لكنّي وحدي كنت أعرف الفرق.
"وتسأله الميم في اسم مريم..
بحق الحُب لا تبتعد."
بحق الحُب لا تبتعد."
كنت على سفرٍ، حين عرفت أن حياتي معنى لا يكتمل إلا به، وأن "أنا" ليست إلا " نحن" تنتظر الحدوث، وأن جَمَال ما بيننا، كجمَال هذه اللحظة التي أكتب فيها عنه سِلسالاً، وهو أبعد ما يكون عني، لكنّه أقرب ما يكون لرُوحي، جمَالٌ لن يتكرر.
Comments
شكراً لذوقَك
:)