كعجوزٍ يتوكّأ علي عصَاه



يبدو أن الفراق صعب كما يقولون.. 

و يبدو أن قلبي به فراغٌ مُوجع..لا يمكن لمسه..ولا الإقتراب منه..فماذا عن صبِّهِ أصلاً ؟

أتحدّث كثيراً عن قلبي هذه الأيام..مع نفسي بالمقام الأول..لا يوجد هنا من يريد أن يسمع حالة قلبك اليومية.. بالأمس كان خائفاً جداً ..أمس الأول كان مُتعلقاً بباب قلبِ آخر..اليوم كأنه عجوز أُخذ منه البصر..و أعطاه أولاد الحلال عصا يتوكأ عليها و يتحسس بها الطريق..
لا أبكي و لا يسألون..كأنهم عرفوا أني لا أبكي أمامهم ..و أني لا أجيد إلا البكاء بعيداً ..
حتي هي لا تسألني ..اكتفت بابتسامة طيّبة عندما زرتها مع أمّي ..و اتسّعت ابتسامتها و أنا أهيل علي قبرها جريد النخل و الورود .. 

يا قلبي يا سيّدة يا زينب! أبحث عن صديقتي عجوز الكرامات بين أبوابك و عند مقامك فلا أجدها...قلبي عاجزٌ أمام الناس ... قلبي عاجز أمام قسوتهم و ترددهم و حبّهم الخائف و خوفهم المُحّب..قلبي عاجزٌ أمام رحيلهم يا ست العواجز.. قلبي عاجز أمام انقطاع المحبة..

لا أرد قضاء الله و لا أعترض..لا تُسيئي الظن برُوحي التي تتحسس مقامك بعينين ذهب منها الوَنَس يام هاشم..جُل الأمر أني وحدي ..وحدي تماماً في مواجهة كل من يطلبني سنداً ..و أنا بلا سند

رفقاً بأمي ..رفقاً بنا يارب و كل يوم تتأكد فجيعة الفراق ..يارب أيقدر علي هذا الحُزن أحدٌ من خلقك؟

خفف الوجع عند التذكّر .. رفقاً بالقلب يارب ..إنه بين اصبعيك تقلبّه كيف تشاء . . بَسَطتُه علي بابك  ..رَفَعتُ أصابعي عنّه كيلا أعصره في لحظة غضب أو نِقمة ..و دلّيت ذراعي حول كتفي أمّي..

أتمسّح بعتبات الكِرام عل شيئاً يُصيبني من كراماتهم.. أمشي في طريق المقبرة..لأجد في مواجهتي لصقاً بها ..سيدي عمر بن الفارض..ياه!..اشتقت لهذا الحضن منذ عامين..عامين لم تطأ قدمي أرض مقابرنا و لم أجلس في باحة المسجد أتأمل في ديوانك..و أتخيّل كيف تكون خِلوتك أعلى الجبل؟

يقولون أن من كراماتك أن أسدأ كان يُصاحبك و يحرسك و يحرس الخِلوة..ضارياً علي خلق الله أليفاً في حضرتك..و أنا أصدّق .. لو كان هذا الأسد مقدار حزني لما صدّقت .. حتي جسست مقامك بقلبي الكفيف .. فرُد إليه البصر..

آه يا سلطان العاشقين و مولاهم و مولاي.. أطمأنيت إلي حضرتك كما أطمأن جدّي إليك في كفنه منذ ستين عاماً تقريباً ..يقولون إنهم كانوا ينقلون رُفَات جدّي شيخ الأزهر الكبير بعد كامل عامٍ من وفاته – كان جسده كما هو – صلُّوا عليه في السيدة نفيسة ..و وصلوا إلي المدفن..فأبي التابوت إلا أن ينظر نحوك..و حاول ثلاثة رجال أشداء أن يعدلوه إلي حجرة الدفن هباء..فأدخلوه إلي حضرتك ، و صلوا عليه ثلاثتهم فقط في غير مواقيت الصلاة..و قاموا فدفنوه فدفن راضياً..و أنا أصدّق ..لو لم تكن هذه النظرة نحو مقامك تًريح الجسد و القلب و الروح..لما صدّقت حتي عانق مقامك الجزء الفارغ المُوجع في قلبي..فاستراح..

إلقِ عليّ سكوناً من روحك الراقصة يا سيدي ولا تُداوني بالصبر..يقولون أنك مررت بقوم في السوق ينشدون ذكراً..فرقصت كالتنّورة ..و هززت جسدك يميناً و يساراً كلما ذُكر اسم الله في ناحية..و ظللت كذلك حتي اجتمع أهل السوق و انتظموا عن يمينك و عن يسارك يقلّدونك في مشهد مهيب.. ظللت كذلك حتي وقعت مغشياً عليك من الوجد..  من هنا نعرف الرقص الصوفيّ اليوم.. و أنا أصدّق ..لو لم أقرأ دعاء الوفاة بجانبك بهذا الطرب و الماء يرقص في عينيّ..و لو لم أرتّل يس كما لم أرتلها منذ سنين ..لما صدّقت حتي سمعت صوتك و رأيت رقصك في الساحة المجاورة لمقامك الذي كنت تنزل فيه من الخلوة لتستقبل العامة و المريدين و السائلين.. و تقيم حلقات الذكر و الحضرات..فانبَسط قلبي إلي الله..

لا يُضاهي في قلبي مقام رئيسة الديوان إلا مقام سلطان العاشقين عمر بن الفارض.. 
غريبٌ قلبي يتعلّق بدروب وَعِرة.. و عاجزٌ أمام الناس و لكنّه ينتظرهم..و عاجز أمام الفُراق و لكنه يَصْطبر..و عاجز أمام الحزن و لكنّه ..يحاول أن يتجلّد..




Comments

شادى زلط said…
فى كل مرة نقع فى الفخ، نكتب تعليقاً يليق بالحالة المكتوبة، نهلل إن كانت الكتابة فرحة، ونواسى إن كانت محزونة، وكأننا نهنى فى قاعة عُرس فى الأولى، أو نطأطىء رؤوسنا ونحن ندخل صوان عزاء فى الثانية.

هذا رد اعتبار للكتابة، وصل المعنى تاماً بغير نقصان، أدت دورها الذى كُتبت من أجله.

وننسى أن نحتفى بالكتابة ذاتها، بالصياغة والحِرفة، بانتقاء الكلمات وتضفير الجُمل، ببراعة الوصف ومهارة التصوير.

هل يُعد نسياننا انتقاصاً لجمال الكتابة، أم اعترافاً بجلال المعنى؟ لست أدرى.

زرت قبر أمى وأنا أقرأ.. وقرأت الفاتحة لأبى قبل أن أنتهى من القراءة، ووجلت روحى احتراماً لمقام الواقف أمامهم على السطور، وربّت على كتفيك بصدق العارف وحُزن المُجرِّب.

ودعوتك للجدة التى لم
أعرفها، بقدر ما استمتعت بحلاوة تعبيرك عن الحُزن الطاهر.

Popular Posts