"براغ" فَخْر كافكا وسِر كونديرا



"الأم العزيزة الصغيرة ذات المخالب"
بهذهِ الجُملة الصعبة، يصِف فرانز كافكا، مدينته الصغيرة، براغ
 (prague) عاصمة التشيك، الأمر ليس سهلاً حين تُفكّر بتتبع سيرة كافكا في المدينة، فهو لم يترك أثراً يدل على أماكنه الحقيقيّة، حرص بشدة على دمج الواقع بالخيال، لم يُشر إلى أماكن بعينها، وإن كان محبّو كافكا يقتفون أثره في ساحة صغيرة تقع بالقرب من "ستاروماك" أطلق عليها منذ عام 2000 "ساحة كافكا" لأنه وُلد في بيت فيها عام 1883، وساحة القديس فاتسلاف، التي تقع في قلب براغ، لوجود أحد مكاتب التأمينات التي عمل فيها موظفاً، ومقهى "اللُّوفْر" الذي كان يُعتبر مقهى القضايا الفلسفية والثقافية بالنسبة له.
ونظراً لهذه الصعوبة، فإن موقع متحف كافكا، لا يُمت بأي صلة لحياة الكاتب أو أماكن سيره وولادته، مكان تم إختياره بمحض الصُدفة على نهر فِلتافا، أكبر أنهار التشيك وأطولها، وأجملها أيضاً.
كُنت أقِف على محطّة الترام في براغ، كمُسافر كافكا: "في ريبة تامّة بخصوص المكان الذي أحتلّه في العالم، في هذه المدينة"، لا أعرف شيئاً غير رقم الترام الذي يذهب إلى هناك، وأحاول نُطق اسم المحطّة وكتابتها على ظهر التذكرة، وأفكّر في إحتفاء المدينة بأديبها الكبير، وعندما وصلت إلى المتحف وأنا أصوّر كُل ما يقع في طريقي، وطالعت حرف ال "
K" الكبير الذي يُزيّن المدخل، تنبأت بمتحف يحفظ تفاصيل حياة الرجل، وقد كان:
مثلاً النافورة التي في الخارج، تمثال لرجلين يتبولان في بحيرة على شكل حدود جمهورية "التشيك" لديفيد سِيرني!
أوّل ما يُقابلك في المتحف، طفولة كافكا، وموسيقى تُشبه ما نعرفه عنه كثيراً ستسير معك في كُل جوانب المتحف، الأماكن التي شهدت لحظات تفتُّح الوعي الأولى، بما فيها المدارس الابتدائية والثانوية، ثم الجامعة. هذه الموسيقى التي تنساب لتُغلّف زائري كافكا بوجوده، تقودَك إلى بعضٌ من الصور والمخطوطات التي توضّح علاقته المعقدة بأسرته خصوصاً والده، والنسخة الأصلية من "رسالة إلى الوالد" المكتوبة في العام 1919.
في الجزء الثاني تبدأ "براغ" في الظهور أكثر، موقعها الأوروبي والعالمي كعاصمة ثقافية، ويظهر دور الشاعر والكاتب "ماكس بورد"، صديق كافكا ومُنقذ كتاباته وناشرها.كما تُشير كُل قطعة إعلان أو ورقة كتب عليها أو تذكرة مسرح، والمحفوظة بإهتمام عظيم، إلى اهتمامات "كافكا" في الأدب والمسرح والفلسفة، ثم وظيفته في شركة التأمين حيث عمل بين 1908 و1912.
 منذ العام 1912 ولحظة التحول الأساسية في حياة كافكا عندما التقى بحبيبته الأولى "فيليس بوير". ففي 20 سبتمبر من العام نفسه كتب لها رسالته الأولى وبعد ليلتين وُلدت قصة "الحكم" بعد ثماني ساعات من الكتابة المحمومة المتواصلة.
لقد كان كافكا يتحدّث التشيكية بطلاقة لكن الألمانية كانت هي لغته الأم واللغة التي قرر الكتابة بها. في الحقيقة الكثير من دارسِيه يقولون أن أعماله صعب فهمها للغاية بأي لغة أخرى غير الألمانية.
يتخلل ردهات المتحف، عروض متحرّكة للوحات فنيّة تقترب من رُوح كافكا، وعرض فيديو للقطات مُميّزة ل"براغ" كما رآها وكما أحبّها.
الجزء الأخير الخاص بحبيبات ورفيقات كافكا، سجّل المراحل الأخيرة من حياته حين تعرّف إلى الصحافية والمترجمة التشيكيّة "ميلينا جيسنكا". وفي هذه الفترة كان يعمل على روايته "القلعة" متنقلاً من مصحة إلى أخرى برعاية "دورا ديرمانت" التي التقاها في برلين وبقيت إلى جانبه طوال العام 1923 آخر سنوات حياته، رفيقة وممرضة.
وهذا الإحتفاء الشديد بكافكا والإهتمام بكافّة التفاصيل التي تتعلّق بِه، لا يُقابله إلا التجاهل الشديد لميلان كونديرا، كأنّه لم يُوجد من الأصل!

فرانز كافكا في براغ 1920





كونديرا الذي وُلد في مدينة "بِرنو"في الأول من أبريل 1929، لا يُوجد أيّ شيّء يُسجل ذكريات السنوات الأولى في هذه المدينة، يتحرّج الناس العاديين من الكلام عنُه أغلب الوقت هناك، أثناء زيارة سريعة للمدينة، حاولت تبادل أطراف الحديث مع النُدّل وأصحاب المحلات اللذين يعرفون الإنجليزية، وباءت محاولاتي بالفشل. وفي "براغ" التي انتقل إليها كونديرا في عام 1948 والتحق بأكاديمية السينما لدراسة الإخراج وسرعان ما ذاع اسم المثقف الشيوعي الشاب في المعهد والمقاهي على حد سواء. يبدو الوضع أصعب، فهناك تاريخ من مهاجمة الرجل في الإعلام الرسمي، هذه نفسها المقاهي التي تنكرُه اليوم ولا تذكر عنه شيئاً، كما حرص هوَ تماماً على محو آثاره. فعلى مدار الثلاثون عاماً الماضية لم يُدْل بحوار، ولم يزر بلده إلا بصفة غير رسمية ولم يقم فيها إلا في فنادق وبأسماء مستعارة. واستحلف أصدقاءه التشيك على الصمت لكي لا ينطق أحدهم بحرف لصحفي عن حقيقة ميلان كونديرا.
لا يُمكن تتبّع سيرة الرجل داخل المدينة إذن، لكن بالحديث مع صديقين كانا مكسب الرحلة، وهما على قمّة واحدة من أشهر منظمات المجتمع المدني العالمية هناك، قال لي أحدهم، أن "ربيع براغ" كان نقطة فاصلة في تعامل الحكومة والشّعب التشيكي مع كونديرا وأضاف، أن المُثقفّين في التشيك موقفهم مُلتبس منه بالفعل، والناس العاديين لا يُحبّون سيرته.
ورغم المكانة التي حظى بها كونديرا في فترة من تاريخ التشيك، إلا أن مواطنوها قاطعوه بالفعل بعد إنتقاله إلى فرنسا، بغض النظر عن الظروف التي أدّت إلى ذلك، لقد فقد وظيفته في السبعينيات، وتم منع كتبه من التداول لمدّة 5 سنوات، هاجر بعدها إلى فرنسا، وحصل على جنسيّتها عام 1981، بعد إسقاط الجنسية التشيكوسلوفاكية عنه في 1978، بعد كتابه " الضحك والنسيان"، وفي 1995 كانت القطيعة النهائية مع اللغة التشيكيّة، وكتب بالفرنسيّة روايته "البطء".
 ولم يتم مناقشة أدبه في الجامعات والمحافل الوطنيّة إلا فيما نَدر، وفي إحداها تم توجيه الدعوة إليه، ولم يُلِبّها مُجيباً على منظميها بشُكر على " احتفالية الموتى هذه" في رسالة لم تخلو من سخرية، وفي 2007، لم يذهب لتسلّم الجائزة الوطنية للأدب التشيكي التي منحت له خلال احتفال تميز بغياب رئيس الدولة ورئيس الحكومة ووزير الثقافة!
"العيش في الحقيقة" عبارة استعملها كافكا في يوميّاته أو إحدى رسائله، واستخدمها كونديرا في رائعته " كائن لا تُحتمل خفّته"، وبراغ سِر كونديرا المدفون، تأبى أن تتركه على صمته وعزلته، ففي أكتوبر 2008، ظهر تقرير مطوّل نشرته مجلة ريسبيكت التشيكية كتبه "آدم هاردليك" وشارك فيه "بيتر ترنسنك"، أُتهم فيه كونديرا في واقعة واحدة بالتعاون مع الشرطة الشيوعية السريّة منذ 64 عاماً، بوشايته بأحد العملاء السريين للغرب إلى الشرطة، مما أدى إلى إعتقاله وسجنه 14 عاماً، تهمة وصفها كونديرا ـ بحسب التايمز البريطانية في 14 أكتوبر 2008 ـ بأنها "كذبة" واعتبرها "اغتيالاً لكاتب". وتضيف التايمز أن كونديرا قال لوكالة الأنباء التشيكية "أنا مذهول تماماً من هذه القصة التي لا أعرف عنها أي شيء والتي لم تحدث أصلاً. أنا لم أعرف الشخص المشار إليه قط، هذه كذبة."
 كان هذا الخروج عن الصمت والتخفّي منذ سنوات، باباً جديداً للتساؤل عن تفاصيل حياة كونديرا وعمّا يُخفيه سطح هذه العلاقة الباردة بينه وبين "براغ".
لم تكن الألمانية مشكلةً في العلاقة بين كافكا وبراغ، ومحطّات الترام والأنهار والبيوت الصغيرة، لقد حافظت بشكل رائع على حميميّة العلاقة وتدفّقها، بينما قلبَت الفرنسيّة الأمور رأساً على عقب بين كونديرا وبراغ، وجعلت بينهما سداً من البرود المتبادل والأسرار التي مهما حاولت الصحافة البحث وراءها، تظل مكتوبة بحبر سرِّي لا يبدو نهر فِلتافا نفسُه قادراً على إظهاره.


ميلان كونديرا في براغ 14 أكتوبر 1973


Comments

Popular Posts